الآن_فهمتك_ياأبي

يوليو 18, 2020
كان أبي إذا دخل غرفتي ، ووجد المصباح مضاءً وأنا خارجها



قال لي : لم لا تطفئه ، ولم كل هذا الهدر في الكهرباء ؟؟؟
وإذا دخل الخلاء ، ووجد الصنبور يقطر ماءً
قال بعلو صوته : لم لا تُحكم غلقه قبل خروجك ، ولم كل هذا الهدر في المياه ؟؟؟

أبي دائما ينتقدني ويتهمني بالسلبية !!!
يعاتبني على الصغيرة والكبيرة !!!
حتى وهو على فراش المرض !!!
استمر الحال إلى أن جاء يوم ووجدت وظيفة ، وهذا اليوم الذي طالما انتظرته .
اليوم سأجري المقابلة الشخصية الأولى في حياتي للحصول على وظيفة مرموقة في إحدى الشركات الكبرى ، وإن تم قبولي فسأترك هذا البيت إلى غير رجعة ، وسأرتاح من أبي وتوبيخه الدائم لي .
استيقظت في الصباح الباكر ، ولبست أجمل الثياب ، وتعطرت ، وهممت بالخروج ، فإذا بيدٍ تربت على كتفي عند الباب !!!
التفت فوجدت أبي مبتسمًا رغم ذبول عينيه وظهور أعراض المرض جلية على وجهه ...
ناولني بعض النقود ، وقال لي : أريدك أن تكون إيجابيا واثقا من نفسك ، ولا تهتز أمام أي سؤال .
تقبلت النصيحة على مضض ، وابتسمت وأنا أتأفّف من داخلي ،
وقلت في نفسي : حتى في هذه اللحظات لا يكف عن النصائح ، وكأنه يتعمد تعكير مزاجي في أسعد لحظات حياتي .
المهم .. خرجت من البيت مسرعًا ، واستأجرت سيارة أجرة ، وتوجهت إلى الشركة ، وما أن وصلت ودخلت من بوابة الشركة حتى تعجبت كل العجب !!!
فلم يكن هناك حراس عند الباب ، ولا موظف استقبال سوى لوحات إرشادية تقود إلى مكان المقابلة .
وبمجرد أن دخلت من الباب
لاحظت أن مقبض الباب قد خرج من مكانه ، وأصبح عرضة للكسر إن اصطدم به أحد .
تذكرت نصيحة أبي لي عند خروجي من المنزل بأن أكون إيجابيا ،
فقمت على الفور برد مقبض الباب إلى مكانه ، وأحكمته جيدا .
ثم تتبعت اللوحات الإرشادية ، ومررت بحديقة الشركة فوجدت الممرات غارقة بالمياه التي كانت تطفو من أحد الأحواض الذي امتلأ بالماء إلى آخره ، وقد بدا أن البستاني قد انشغل عنه .
فتذكرت تعنيف أبي لي على هدر المياه ، فقمت بسحب خرطوم المياه من الحوض الممتلئ ، ووضعته في حوض آخر مع تقليل ضخ الصنبور حتى لا يمتلئ بسرعة إلى حين عودة البستاني .
ثم دخلت مبنى الشركة متتبعا اللوحات الإرشادية ، وخلال صعودي على الدرج لاحظت الكم الهائل من مصابيح الإنارة المضاءة ونحن في وضح النهار ، فقمت لا إراديا بإطفائها خوفا من صراخ أبي الذي كان يصدح في أذني أينما ذهبت .
إلى أن وصلت إلى الدور العلوي ، ففوجئت بالعدد الكبير من المتقدمين لهذه الوظيفة .
فقمت بتسجيل اسمي في قائمة المتقدمين ، وجلست أنتظر دوري وأنا أتمعن في وجوه الحاضرين وملابسهم لدرجة جعلتني أشعر بالدونية من ملابسي وهيئتي أمام ما رأيته .
والبعض يتباهى بشهاداته الحاصل عليها من الجامعات الأمريكية ، ثم لاحظت أن كل من يدخل المقابلة لا يلبث إلا أن يخرج في أقل من دقيقة .
فقلت في نفسي إن كان هؤلاء بأناقتهم وشهاداتهم قد رُفضوا فهل سأقبل أنا ؟؟!!
وهممت بالانسحاب والخروج من هذه المنافسة الخاسرة بكرامتي ، قبل أن يقال لي نعتذر منك .
وبالفعل انتفضت من مكاني وهممت بالخروج ، فإذا بالموظف ينادي على اسمي للدخول ، فقلت لا مناص سأدخل وأمري إلى الله .
دخلت غرفة المقابلة ، وجلست على الكرسي في مقابل ثلاثة أشخاص ، نظروا إليّ ، وابتسموا ابتسامة عريضة ،
ثم قال أحدهم : متى تحب أن تتسلّم الوظيفة ؟؟
فذهلت لوهلة ، وظننت أنهم يسخرون مني ، أو أنه أحد أسئلة المقابلة ، ووراء هذا السؤال ما وراءه .
تذكرت نصيحة أبي لي عند خروجي من المنزل ، بألا أهتز ، وأن أكون واثقا من نفسي .
فأجبتهم بكل ثقة : بعد أن أجتاز الاختبار بنجاح إن شاء الله .
فقال آخر : لقد نجحت في الامتحان وانتهى الأمر .
فقلت : ولكن أحدا منكم لم يسألني سؤالا واحدا !!!
فقال الثالث : نحن ندرك جيدا أنه من خلال طرح الأسئلة فقط لن نستطيع تقييم مهارات أي من المتقدمين .
ولذا قررنا أن يكون تقييمنا للشخص عمليا ...
فصممنا مجموعة اختبارات عملية تكشف لنا سلوك المتقدم ، ومدى الإيجابية التي يتمتع بها ، ومدى حرصه على مقدرات الشركة ، فكنت أنت الشخص الوحيد الذي سعى لإصلاح كل عيب تعمدنا وضعه في طريق كل متقدم ، وقد تم توثيق ذلك من خلال كاميرات مراقبة وضعت في كل أروقة الشركة .
حينها فقط اختفت كل الوجوه أمام عيني ، ونسيت الوظيفة والمقابلة وكل شيء ، ولم أعد أرى إلا صورة أبي !!!
أبي ... ذلك الباب الكبير الذي ظاهره القسوة ، ولكن باطنه الرحمة ، والمودة ، والحب ، والحنان ، والطمأنينة .
شعرت برغبة جامحة في العودة إلى البيت ، والانكفاء على أبي لتقبيل رأسه ويديه وقدميه .
وعندما وصلت عند باب الدار رأيت أقاربي والجيران مجتمعين ،
ينظرون إلي نظرات يأس وعطف ،
عندها فهمت كل شيء ..
لقد وصلت متأخرا ..
لقد فات الأوان ..
والآن .. اشتقت إلى سماع صوته ، ونغمة صراخه تطرب أذني .
لماذا لم أر أبي من قبل ؟؟؟
كيف عميت عيناي عنه ؟؟؟
عن العطاء بلا مقابل ...
عن الحنان بلا حدود ...
عن الإجابة بلا سؤال ...
عن النصيحة بلا استشارة ...
حقا .. رحيلك مُرٌّ يا أبي
كنت أنت البارَّ بنا ، ولم تنل البر منا كما يجب أن يكون .
غبت يا أبي وغاب عني العقل الرشيد والركن الشديد ، والسند المتين ، والناصح الأمين .
لم يمت أبي ولن يموت ...
بل سيظل حيا في صلاتي ، في دعائي ، في ركوعي ، في سجودي ، في صدقتي ، في حجي ، في عمرتي ، وفي كل عمل أتقرب به إلى الله ...
أسأله أن يغفر لأبي ويتغمده بواسع رحمته .
لم يمت أبي ...
وإن مات فهو باقٍ في نفسي إلى أن ألحق به في جنات الخُلود ...
إذا أتممت القراءة فلا تخرج قبل أن تدعو لمن رباك ...
اللهم ارحم والدي كما ربياني صغيرا
وأسكنهما الفردوس الأعلى من الجنة ياحي ياقيوم .

منقول للفائدة







مواضيع ذات صلة

Previous
Next Post »